قطار الساعة الثانية عشر !!

مر قطار الساعة التاسعة مساء.. أمسك بعصاه.. وقام من على الأريكة..  اتجه الى مكان سجادة الصلاة.. تحسس السجادة بعصاه.. ومن ثم صلى صلاة العشاء.. وبعد أن انتهى..  أطفأ الأنوار واتجه الى سريره.. وألقى بجسده عليه..  لعل هذا الجسد النحيل أن يتذوق طعم الراحة.. ولعل العيون التي ما عادت قادرة على الأبصار أن ترى في أحلامها ذلك النور الذي ما عادت تراه.. مرت خمسة أعوام منذ أن فقد بصره.. حدث ذلك عندما كان يعمل في غرفة الوقود في أحد القطارات.. وحدث انفجار أفقده نعمة البصر.. وبعد تلك الحادثة لم يستطع إكمال عمله.. فأصبح يقضي معظم وقته في بيته البسيط .. كان يسعده كثيرا أن بيته قـريب من محطة القطارات.. فصوت القطارات الذي اعتاد على سماعه سيسمعه دائما.. ورائحة الدخان التي تنبعث من القطارات سيشمها دائما.. فإن له مع القطارات عشرة طويلة لا يستطيع أن ينساها بسهولة.. فسماعه لصوتها أو حتى رائحتها قد تخفف عنه همه وعجزه.. وكان أصدقاؤه ممن كانوا يعملون معه يأتون لزيارته يوميا ويستمع منهم إلى أخبار القطارات والرحلات.. ويسألهم عن كل الأمور الصغيرة والكبيرة بشغف ولهفة..
 

وكان يعتمد على صوت القطارات في معرفة الوقت.. فبعد الفترة الطويلة التي عمل بها في محطة القطارات.. كان يعرف كل مواعيدها بدقة.. وكان من حسن حظه أنها ثابتة لا تتغير.. فكانت الأوقات التي يمر فيها القطار كالساعة بالنسبة له.. فإذا مر قطار الواحدة قام وصلى الظهر.. واذا مر قطار الثالثة قام وتناول الغداء واذا مر قطار السابعة فهذا موعد زيارة أصدقائه له.. وهكذا.. كان يحن لصوت القطارات ويشتاق لها.. ليس لمجرد معرفة الوقت.. بل لتلك الصلة الوثيقة بينه وبين القطارات والتي لا يستطيع التخلي عنها يوما.. كان صوت القطارات يبعث في داخله الأمل والحياة..
 

وبعد ليلة هادئة.. أفاق من نومه.. فرك عينيه .. ونظر أمامه.. لعل بصره قد عاد إليه.. أو ربما أنه كان يحلم بأنه فقد بصره وقد حان أن يصحو من ذاك الحلم.. ولكن هيهيات هيهات.. كانت هذه الأفكار تراوده كل ما أفاق من نومه.. ولكنه ما زال عاجزا عن رؤية النور.. أمسك بعصاه .. وتوجه إلى أريكته.. وجلس.. وطال جلوسه على الأريكة.. ولكنه مع ذلك لم يسمع صوت القطارات.. بدأ يفكر في الأمر.. هل فعلا تأخر مرور  القطارات .. أم أن شعوره بالملل والضجر جعله يشعر أن الوقت الذي مر كان طويلا.. اتجه الى جهاز التلفاز.. أشعله.. كانت نشرة أخبار الثامنة قد بدأت.. كانت نشرة الأخبار تبدأ دائما عند مرور قطار الساعة الثامنة!!.. ولكن ما الذي حدث اليوم.. أين القطارات؟!.. بدأ يقلق.. وما هي الا لحظات حتى سمع طرقات على الباب.. توجه إلى الباب وفتحه.. فألقى عليه صديقه أبو محمد السلام.. رد عليه السلام ولكنه استغرب من مجيئه في هذا الوقت.. فهو لا يأتي قبل مرور قطار السادسة مساء.. وقبل هذا الوقت يكون في محطة القطار  حتى يأتي من ينوب عنه ويستلم عمله.. أدخل صديقه الى بيته.. شعر من نبرة صوته الحزن.. سأله بلهفة عن ما حدث.. لماذا لم يسمع صوت القطارات.. لماذا هو خارج عمله؟!... أخبره صديقه أن قرارا قد صدر بإيقاف محطة القطارات عن العمل لأنها أصبحت قديمة.. وبما أن محطة القطارات في البلدة المجاورة أصبحت جاهزة وسيتم افتتاحها غدا.. فلا داعي لاستمرار هذه المحطة في العمل..  ولقد فقد معظم الموظفين والعمال عملهم.. إلا عدد قليل منهم تم نقله الى المحطة الجديدة.. ولقد توجهوا جميعا الى الإدارة الرئيسية للاحتجاج على هذا القرار الظالم.. !!

 في اليوم التالي.. كان موعد قطار الساعة الثانية عشر ظهرا.. ولكن لم يسمع أحد صوت القطار.. كان الهدوء يخيم على المكان في اللحظة التي انتهى موظفي وعمال محطة  القطار من دفن صديقهم الذي فقد عينيه وعمله يوما من أجل أن يبقى صوت القطارات عاليا يسمعه الجميع.. !!