بلاط الشهداء

سنة 114هـ

 


لم يتوقف المسلمون الفاتحون عند الأندلس بل دفعهم الحماس لدينهم إلى عبور جبال البرانس الفاصلة بين الأندلس وفرنسا , و كان أول مَنْ فكر في هذا الأمر القائد العظيم موسى بن نصير، الذي أراد دخول فرنسا ثم باقي أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية - عاصمة الدول البيزنطية- من الغرب.

وظلت فكرة فتح فرنسا حلمًا يراود كل القادة المسلمين، حتى قام بالفعل والي الأندلس "الحر بن عبد الرحمن الثقفي" بدخول جنوب فرنسا، وجعل مدينة "أربونة" قاعدة لمن أراد من المسلمين فتح أوروبا. ثم حاول السمح بن مالك الخولاني تحقيق تلك الفكرة ولكنه استشهد في تولوز وانهزمت جيوشه المسلمة، ورجعت إلى أربونة.

ولم تضعف للمسلمين عزيمة، ولم تلن لهم قناة، وبرغم الصعوبات والمشاق التي اعترضتهم، فإنهم لبوا النداء حين دعاهم للجهاد ونشر نور الإسلام وجاء المجاهدون من كل حدب وصوب إلى القائد عبد الرحمن الغافقي.

تناهت إلى (دوق اكتانية) الأخبار المفزعة عن مصرع صهره عثمان بن أبي نعسة، وبلغته أنباء النهاية التي صارت إليها ابنته الحسناء (مينين) .......فأدرك أن طبول الحرب قد دقت ...وأيقن أن أسد الإسلام عبد الرحمن الغافقي ممس في دياره، أو مصبح ......

لم يكذب عبد الرحمن الغافقي ظن الدوق ....، فانطلق بجيشه اللجب من شمال (الأندلس) انطلاق الإعصار، وانصب على جنوب (فرنسا) من فوق جبال (البرنيه) كما ينصب السيل . ثم عبر بجيشه الجرار نهر (الجارون)، وطفقت كتائبه الظافرة تجوس مقاطعة (أكتانية) ذات اليمين وذات الشمال. ثم اتجه المسلمون إلى مدينة (بوردو) كبرى المدن (الافرنسية) آنذاك، وعاصمة مقاطعة (أكتانية). وقد كان سقوط (بوردو) في أيدي المسلمين فاتحة لسقوط مدن أخرى كثيرة خطيرة , أهمها (ليون) و (بيزانسون) و (سانس)، وكانت هذه الأخيرة لا تبعد عن (باريس) اكثر من مائة ميل.

اهتزت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها لسقوط نصف (فرنسا) الجنوبي كله في يدي عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر ، وفتح الفرنجة أعينهم على الخطر الداهم , ودب الصريخ في كل مكان يدعو العجزة والقادرين إلى الوقوف في وجه هذا الهول القادم من الشرق.

كان الجيش الإسلامي آنذاك قد بلغ مدينة (تور) طليعة مدن (فرنسا) وفرة في السكان، وقوة في البنيان، وعراقة في التاريخ .... فأحاط بها المسلمون إحاطة الغل بالعنق , وانصّبوا عليها انصباب المنون إذا جاء الأجل , واسترخصوا في سبيل افتتاحها الأرواح والمهج ؛ فما لبثت أن سقطت بين أيديهم على مرأى (شارل مارتل) ومسمعه ...

وفي العشر الأخيرة من شهر شعبان سنة أربع ومائة للهجرة، زحف عبد الرحمن الغافقي بجيشه اللجب على مدينة (بواتييه). وهناك التقى مع جيوش اوربّا الجرارة بقيادة (شارل مارتيل) , ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المسلمين فحسب وانما في تاريخ البشرية كلها.

كان الجيش الإسلامي يومئذ في ذروة انتصاراته الباهرة. لكن كاهله كان مثقلا بتلك الغنائم التي انصبت عليهم انصباب الغيث ، وتكدست قي أيدي جنوده المجاهدين .، وقد نظر عبد الرحمن الغافقي إلى هذه الثروة الهائلة نظرة قلق وإشفاق , وتوجس منها خيفة على المسلمين ؛ فقد كان لا يأمن أن تشغل هذه النفائس قلوبهم عند اللقاء ، وان توزع نفوسهم في لحظات البأس و ان تجعل إحدى عيني الواحد منهم على العدو المقبل عليه , وعينه الأخرى على الغنائم التي في يديه ....

وقف الجيشان الكبيران بضعة أيام كل منهما قبالة الآخر في سكون، وترقب، وصمت، فقد كان كل من الجيشين يخشى بأس عدوه، ويحسب للقائه ألف حساب.

انقض عبد الرحمن الغافقي بفرسانه على صفوف الفرنجة انقضاض الأسود. وصمد لهم الفرنجة صمود الجبال . وانقضى اليوم الأول من أيام المعركة دون أن ترجح فيه كفة على كفه .. وظلت المعركة تدور على هذه الحال سبعة أيام طويلة ثقيلة.

فلما كان اليوم الثامن كر المسلمون على عدوهم كرة واحدة. ففتحوا في صفوفه ثغرة كبيرة لاح لهم من خلالها النصر كما يلوح ضوء الصبح من خلال الظلام. عند ذلك أغارت فرقة من كتائب الفرنجة على معسكرات الغنائم. فلما رأى المسلمون أن غنائمهم قد أوشكت أن تقع في أيدي أعدائهم. انكفأ كثير منهم لاستخلاصها منه، فتصدعت لذلك صفوفهم، وتضعضعت جموعهم، وذهبت ريحهم ...... فهب القائد العظيم يعمل على رد المنكفئين , ومدافعة المهاجمين , وسد الثغور. وفيما كان بطل الإسلام عبد الرحمن الغافقي يذرع أرض المعركة على صهوة جواده الأشهب جيئة وذهابا ... وكرا وفرا ....، أصابه سهم نافذ فهوى عن متن فرسه كما يهوي العقاب من فوق قمم الجبال. وثوى صريعا شهيدا على أرض المعركة. فلما رأى المسلمون ذلك عمهم الذعر وسادهم الاضطراب واشتدت عليهم وطأة العدو، ولم يوقف بأسه عنهم إلا حلول الظلام .

فلما أصبح الصبح وجد (شارل مارتيل) أن المسلمين قد انسحبوا من (بواتييه). فلم يجرؤ على مطاردتهم ــــ ولو طاردهم لأفناهم ــــ ذلك أنه خشي أن يكون انسحابهم مكيدة من مكائد الحرب دبرت في ليل ؛ فآثر البقاء في مواقعه مكتفيا بذلك النصر الكبير.

لقد كان يوم بلاط الشهداء يوما حاسما في التاريخ. أضاع فيه المسلمون أملا من أعز الآمال ... وفقدوا خلاله بطلا من أعظم الأبطال.... وتكررت فيه مأساة يوم (أحد) سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا...