.

الحجاج وسعيد بن جبير

 
 

روي المؤرخون أن سعيد بن جبير كان ينهي الحجاج عن الظلم والبطش، كان ينصح الناس بمخالفته وبالوقوف في وجهه، وضاق الحجاج ذرعا بتصرفات سعيد ­ رضي الله عنه ­ فاستدعاه ودارت بينهما مناقشة طويلة تدل علي قوة إيمان سعيد، وصدق يقينه، وثبات جنانه وشجاعته في الحق.
قال الحجاج لسعيد: مااسمك؟
قال: سعيد بن جبير
الحجاج: أنت الشقي بن كسير؟
سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك
الحجاج: شقيت وشقي أبوك
سعيد: الغيب يعلمه الله.
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظي
سعيد: لوعلمت أنك كذلك لاتخذتك إلها.
الحجاج: مارأيك في علي بن أبي طالب أهو في الجنة أو في النار؟
سعيد: لو دخلتها وعلمت من فيها لعرفت أهلها ولكني مازلت في دار الفناء.
الحجاج: مارأيك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل
الحجاج: أيهما أحب إليك؟
سعيد: أرضاهم لخالقي
الحجاج: فأيهم أرضاهم لله؟
سعيد: علم ذلك عند من يعلم سرهم ونجواهم
الحجاج: لماذا لا تضحك كما نضحك؟
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين، والطين تأكله النار
الحجاج: ولكنا نحن نضحك
سعيد: لأن القلوب لم تستو بعد
الحجاج: اختر لنفسك قتلة أقتلك بها؟
سعيد: أختر أنت ياحجاج.. فو الله لاتقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
الحجاج: أتحب أن أعفو عنك؟
سعيد: ان كان العفو فمن الله
الحجاج: لجنده: اذهبوا به فاقتلوه!
سعيد يضحك وهويتأهب للخروج مع جند الحجاج.
الحجاج: لماذا تضحك؟
سعيد: لأني عجبت من جرأتك علي الله ومن حلم الله عليك.
الحجاج: اقتلوه.. اقتلوه
سعيد: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.
الحجاج: وجهوا وجهه إلي غير القبلة
سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله.
الحجاج: كبوه علي وجهه
سعيد: 'منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري'
الحجاج: اذبحوه!!
سعيد: أما أني أشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
ثم رفع رأسه إلي السماء وقال:
خذها مني ياعدو الله حتي نتلاقي يوم الحساب:
'
اللهم اقصم أجله، ولا تسلطه علي أحد يقتله من بعدي'
وصعدت دعوة سعيد إلي السماء، فلقيت قبولا واستجابة من الله والواحد القهار.
فلقد أصيب الحجاج بعد قتله لسعيد بن جبير بمرض عضال أفقده عقله، وصار كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكان كلما أفاق من مرضه قال بذعر: مالي ولسعيد بن جبير
وبعد فترة قصيرة من قتل سعيد بن جبير مات الحجاج الثقفي شر موته، وتحققت دعوة سعيد فيه، فلم يسلطه الله علي أحد يقتله من بعده.
وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول:
'
ثلاثة لاترد دعوتهم: الصائم حتي يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب:
وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين رواه الترمذي


***
موقف رائع من سيد التابعين سعيد بن جبير، فالرجل قد مات شهيدا، ولم يهرب من الموت.. بل واجهه بشجاعة وشموخ، وكان يمكنه أن يفلت من هذا الموت المحقق، لو استمال الحجاج ببعض كلمات المدح، أو اعتذر بكلمات معسولة، أو حاول تبرير موقفه بأي تبرير يرضي غرور هذا المستبد الطاغي، وأنه يعلم تمام العلم أنه لوفعل ذلك لنجا من الموت، ولكنه لم يفعل.. وقد فعلها غيره وهو الفقية (عامر الشعبي) حيث اعتذر عن مواقفه منه بقوله للحجاج:
'
أصلح الله الأمير، لقد حبطتنا فتنة، فما كنا فيها بأبرار أتقياء، ولافجار أقوياء، وقد كتبت إلي يزيد بن أبي مسلم أعلمه ندامتي علي مافرط مني، ومعرفتي بالحق الذي خرجت منه، وسألته أن يخبرك بذلك ويأخذ أمانا منك'!
وبهذه الكلمات نجا الرجل من الموت، ولكن سعيد رفض هذا الأسلوب، وآثر الشهادة، ولقي ربه وهوشامخ الرأس، مؤمنا بكل كلمة قالها ولم يتراجع عنها حتي في ظلال الموت.
 
 ***
 
 
صورة آسرة لشهيد عظيم.. قدم دمه في سبيل مبادئه.. فالمبدأ عنده فوق المصلحة.. والحجاج الذي قتل أكثر من مائة ألف إنسان كما يقول المؤرخون لحياته، لم يعبأ بموت أحد كما حدث له عندما قتل سعيدا.. حتي أنه كان يخيل إليه عندما يحاول النوم أن هاتفا يهتف في أذنه:
 
فيم قتلت سعيدا.. ياعدو الله!
 
فيقوم فزعا.. مؤرقا.. مهموما.. إلي أن مات..
 
وبقي اسم سعيد بن جبير مثلا أعلي لكل من يريد الحق.
 
ويبقي اسم الحجاج بن يوسف الثقفي رمزا للطغيان والجبروت.
 
والتاريخ يحتفي دائما بالتقاة الهداة، ويلعن الطغاة!