البدايات
الصعبة
أصعب اللحظات عند بدء مشروع جديد هي
لحظات
البداية.. لذا أجدني دائماً -وعند البدء في تأليف كتاب جديد- متحفزاً
للتغلب
على هذه
المشكلة والقضاء عليها، بكتابة المزيد والمزيد؛ حتى إذا ما نظرت وجدتني
وقد
أصبحت في
منتصف الكتاب! عندها أعود أدراجي لأنقّح وأعدّل، وأضيف وأحذف، وقد زال
عني
خوف الخطوة
الأولى..
ولقد بحثت
عن سرّ هذا الأمر، ووجدت أنه ليس عندي وحدي، ولست
منفرداً
أعاني ويلاته؛ وإنما هو أمر شائع وموجود، والسر في هذا يتمركز في أن
الخطوات
الأولى دائماً تكون غير ظاهرة للعيان، ولا تستطيع أن تقيسها بمقياس
النجاح.
*******
ضربة الفأس
الأولى
في الأرض
ليست إنجازاً، السطر الأول في كتاب ليس نجاحاً، الشهور الأولى في
مشروعك
الخاص ليست
مقياساً لتقدّمك.. وهكذا.
العين لا
ترى إلا الشيء الكبير، والشيء
الكبير لا
يتأتّى إلا بصبر كبير.. والصبر الكبير تنتجه همّة عالية؛ لذا أصبح هذا
الأمر أحد
أكبر التحديات التي تواجه الواحد منا في هذه الحياة، تحدي تحمّل صعوبات
البداية.
لعلك لا
تعلم أن الصاروخ يحرق في مرحلة الإقلاع المخزون الأكبر من
وقوده.
نعم.. قبل
أن يغادر سماءنا يكون قد أحرق جُلَّ طاقته؛ حتى سيارتك إذا ما
أحببت
قيادتها صباحاً؛ فإنها تحتاج أن تنتظر عليها قليلاً قبل أن يتهيأ
موتورها،
وتصبح
جاهزة للانطلاق.
إنها
الخطوة الأولى في كل شيء.. بسيطة.. صغيرة.. غير
منظورة؛
لكنها.. في غاية الأهمية..
*******
لذا فإننا
يجب أن نثبّت أعيننا على الغاية الكبرى
التي نسير
إليها، كي نستمد منها الحماسة، ولا نستصغر الخطوات الأولى؛ بل ننمّيها
ونقوّيها
بخطوات أخرى تعزز من رسوخها.
إن الطفل
وهو يخطو الخطوة الأولى يَملّ
ويجلس؛
لكننا -بما لدينا من مخزون فطري- ندرك أن هذه العثرات والانكفاءات
الأولى،
هي التي
ستجعله يهرول بعد ذلك..
والقارئ في
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيجد
كيف أنه
صلى الله عليه وسلم كان يمتلك رؤية واضحة لمستقبل أتباعه؛ فعن خباب بن
الأرتّ
قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بُرْدَة له في
ظل
الكعبة،
فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ
الرجل
فيحفر له
في الأرض فيجعل فيها؛ فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين،
ويمشّط
بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه. والله
لَيتِمّنّ
هذا الأمر
حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على
غنمه،
ولكنكم
تستعجلون..
إنه
استعجال النتائج.. آفة البشر منذ فجر التاريخ وحتى
اليوم..
*******
ولعل
استنتاجاً قد
يُطرح، أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يُوحى إليه من ربِّ العزة سبحانه، وربما
بشّره ربه
بانتشار رسالته، وفي الحقيقة أن هذا أمر وارد. ووارد أيضاً أن يكون
يقينه
نابعاً من
قوة وعِظَم رسالته، وإيمانه بها..
وارد جداً
أن يكون إيمانه بعِظَم
الرسالة
التي يحملها يخبره وهو يجتمع بنفره القليل في دار بن الأرقم، أن النصر
له؛
فلم ينظر
إلى قلّة أصحابه ويستصغر قوّتهم..
ودعنا ننظر
إلى مثال تاريخي، القائد
المسلم
(محمد الفاتح) كان وهو طفل صغير، يجري إلى مياه البحر ناظراً إلى أسوار
القسطنطينية، وهو يردد: غداً سأحطم أسوارك المنيعة، وفتحها رحمه الله
وهو ابن
العشرين؛
فهل كان يدرك هذا القائد وهو يقبض على سيفه لأول مرة ويتعلم فنون
المبارزة،
أن هذه خطوة في سبيل نصر كبير؟... وأجيبك بكل تأكيد: نعم..
دعك من
الأمثلة
واذهب بنفسك إلى أقرب منطقة صناعية قريبة منك، وانظر إلى عامل بناء وهو
يضع
الحجر
الأول وسله ماذا تفعل، وستجده يخبرك أنه يبني سوراً..
لكنك لو
سألت المهندس
الذي رسم
البناية؛ فسيخبرك في ثقة أنه يبني: ناطحة سحاب..
*******
إن من
يضعون أمام
أعينهم الغاية الكبيرة، يتحملون البدايات البسيطة، مستمدين من عِظَم
مطلبهم
عوناً لهم على ذلك..
فلا
تستصغرنّ خطوتك الأولى، وتعامل معها بصبر
ورَوِيَة..
وتأكّد أن الخطوة الأولى -على بساطتها- وصغرها لا بديل
عنها..
*******
كريم الشاذلي
|