السعادة

 

الشيخ والأديب: علي الطنطاوي

 

كنت أقرأ في ترجمة ( كانت ) الفيلسوف الألماني الأشهر أنه كان لجاره ديك قد وضعه قبالة مكتبه ، فكلما عَمِدَ إلى شغله صاح الديك ، فأزعجه عن عمله ، وقطع عليه فكره.

فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ، ويذبحه ويطعمه من لحمه ، ودعا إلى ذلك صديقاً له ، وقعدا ينتظران الغداء ، ويحدِّثه عن هذا الديك ، وما كان يلقى منه من إزعاج ، وما وجده بعده من لذة وراحة ؛ ففكر في أمان ، واشتغل في هدوء ، فلم يقلقه صوته ، ولم يزعجه صياحه.

 ودخل الخادم بالطعام معتذراً أن الجار أبى أن يبيع ديكه ، فاشترى غيره من السوق ، فانتبه ( كانت) فإذا الديك لايزال يصيح !

 فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِي بهذا الديك لأنه كان يصيح ، وسَعِدَ به وهو لايزال يصيح .

 ما تبدّل الواقع ، ما تبدّل إلا نفسه ، فنفسه هي التي أشقته لا الديك ، ونفسه في التي أسعدته ، وقلت : ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا ؟

ومادامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنّا ؛ إذ نمشي من غير طريقها ، ونلجها من غير بابها ؟
إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته ، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك ؛ لأن الأرض مملوءة بالدِيَكة ، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن رفعها من الأرض ؟ لماذا لا نسدُّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدّ أفواهها عنّا ؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفقَ ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل مافي الوجود وفق أهوائنا؟

أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض ، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو ، ولا أبواق السيارات وهي تُسمع الموتى ، وتوقظني همسة في جو الدارضعيفة ، وخطوة على ثراها خفيفة ، فإذا نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي ، فإذا كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي ، ولا صوت القطار وهو يهتز بي ؛ فكيف احتملت هنا مالم أكن أحتمله هناك ؟ وآلمني هناك مالم يؤلمني هنا ؟.

 ذلك لأن الحسّ كالنور ، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره ، وإن حجبته حجب الأشياء عنك ، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى ، وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخْفَت ؛ لأنك وجَّهت إلى هذا حسَّك ، وأدخلته نفسك ؛ فسمعته على خُفُوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء ، وأغْفَلتَ ذلك وأخرجته من نفسك ، فلم تَسْمَعه على شدته ، وخَفِي عنك كما تختفي في الظلام عظائمُ الموجودات.

 فلماذا لا تصرف حسّك عن كل مكروه ؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك ، ولكن ما أدخلته أنت برضاك ، وقَبِلتَه باختيارك ، كما يُدْخِل الملك العدوّ قلعته بثغرة يتركها في سورها ، فلماذا لا نقوِّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام ؟إني أسمعكم تتهامسون، تقولون : "فلسفة وأوهام" ؟نعم ، إنها فلسفة ،ولكن ليست كل فلسفة هذيانا ، وإنها أوهام ، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص ، ونسعد بها ونشقى ، أو شيء كالأوهام.

يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد ، فيشكو هذا ويتذمر ؛ فكأنه حمل حملين ، ويضحك هذا ويغني ؛ فكأنه ما حمل شيئًا.

ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد ، فيتشاءم هذا ، ويخاف ، ويتصور الموت ، فيكون مع المرض على نفسه ؛ فلا ينجو منه ، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة ؛ فتسرع إليه ويسرع إليها .

ويُحكم على الرجلين بالموت ؛ فيجزع هذا ، ويفزع ؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات ، ويملك ذلك أمره ويُحْكِم فكره ، فإذا لم تُنْجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُهُ.
وهذا ( بسمارك ) رجل الدم والحديد ، وعبقري الحرب والسِلْم ، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة ، وكان لا يفتأ يوقد الدّخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه ، وساء تدبيره.
وكان يوماً في حرب ، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة ، لم يصل إلى غيرها ، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتد عليه فيها الضيق ويعظم الهم ، وبقي أسبوعاً كاملاً من غير دخان ، صابراً عنه أملاً بهذه الدخينة ، فلما رأى ذلك ترك التدخين ، وانصرف عنه ؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة .

وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بِتَوَهُّم أن في أمعائه ثعباناً ،فراجع الأطباء ، وسأل الحكماء ؛ فكانوا يدارون الضحك حياءً منه ، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود ، ولكن لا تقطنها الثعابين ، فلا يصدّق ، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب ، بصير بالنفسيات ، قد سَمِع بقصته ، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح ، وكان وضع له ثعبانًا فلما رآه أشرق وجهه ، ونشط جسمه ، وأحس بالعافية ، ونزل يقفز قفزًا ، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءًا ، ويئن ويتوجع ، ولم يمرض بعد ذلك أبداً .

ما شَفِي الشيخ لأنَّ ثعباناً كان في بطنه ونَزَل ، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة ، وإن في النفس الإنسانية لَقُوىً إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب .
تنام هذه القوى ، فيوقظها الخوف أو الفرح ؛أَلَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضاً خامل الجسد ، وَاهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب ، فرأى حيَّة تُقبل عليه ، ولم يَجِدْ مَنْ يدفعها عنه ، فوثب من الفراش وَثْبًا ، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم ؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب ، قد هَدَّه الجوع والتعب ، لا يبتغي إلا كُرْسِيَّـاً يطرح نفسه عليه ، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره ، أو كتاباً مستعجلاً من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته ، فأحسَّ الخفة والشبع ، وعدا عَدْواً إلى المحطة ، أو إلى مقر الوزير ؟

هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا ، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة ، والسواقي العكرة !

يا أيها القراء : إنكم أغنياء ، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها ، فترمونها ؛ زهداً فيها ، واحتقاراً لها

يصاب أحدكم بصداع أو مغص ، أو بوجع ضرس ، فيرى الدنيا سوداء مظلمة ؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحاً بيضاء مشرقة ؟ ويُحْمَى عن الطعام ويمنع منه ، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم ، ويحسد من يأكلها ؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض ؟

لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها ؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه ، ولايضحك الشاب لصباه ؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا ، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي ، أو مُتَّشِحةً بضباب المستقبل ؟كل يبكي ماضيه ، ويحن إليه ؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا ؟

.أيها السادة والسيدات :

إنا نحسب الغنى بالمال وحده ، وما المال وحده ؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤتى بأطايب الطعام ، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا ، لمَّا نَظَر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود ، يدفع اللقمة في فمه ، ويتناول الثانية بيده ، ويأخذ الثالثة بعينه ، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانياً؟

فلماذا لا تُقَدِّرون ثمن الصحة ؟ أمَا للصحة ثمن ؟من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي ؟

أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلّ في الصحراء ، وكاد يهلك جوعًا وعطشًا ، لما رأى غدير ماء ، وإلى جنبه كيس من الجلد ، فشرب من الغدير ، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا ، فلما رأى ما فيه ، ارتد يأسًا ، وسقط إعياءً .

لقد رآه مملوءً بالذهب !

وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر ، فزعموا أنه سأل ربه أن يحوّل كل ما مسّته يده ذهبًا ، ومسّ الحجر فصار ذهبًا ؛ فكاد يجنّ من فرحته ؛ لاستجابة دعوته ، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا ، وعمد إلى طعامه ؛ ليأكل ، فمس الطعام ، فصار ذهبًا وبقي جائعًا ، وأقبلت ابنته تواسيه ، فعانقها فصارت ذهبًا ، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته وأن يبعد عنه الذهب !

وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة ، فانصفق عليه بابها ، فمات غريقًا في بحر من الذهب .

يا سادة : لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا ؟ أليس البصر من ذهب ، والصحة من ذهب ، والوقت من ذهب ؛ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا ؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة ؟
فيا سادة : إن الصحة والوقت والعقل ، كل ذلك مال ، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد .

وملاك الأمر كله ورأسه الإيمان ،الإيمان يشبع الجائع ، ويدفئ المقرور ، ويغني الفقير ، ويُسَلِّي المحزون ، ويُقوِّي الضعيف ، ويُسَخِّي الشحيح ، ويجعل للإنسان من وحشته أنسًا ، ومن خيبته نُجْحًا .

وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلّ مُرَتّبك ، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهمًا ولا علمًا ، وحسبًا ونسبًا .

وأنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان ، وهارون الرشيد ، وقد كانا مَلِكَي الأرض.

فقد كان لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل ، فلم يكن يجد طبيباً يحشوها ، ويلبسها الذهب ، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب .

وكان الرشيد يسهر على الشموع ، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء ، وتركب السيارة ، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات .
فيا أيها القراء :
إنكم سعــداء ولكن لا تدرون ، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها ، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها ، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ، ولم تطلبوا المستحيل ، فتحاولوا سدّ فمه عنكم ، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم .
سعداء إن كانت أفكاركم دائماً مع الله ، فشكرتم كل نعمة ، وصبرتم على كل بَلِيَّة ، فكنتم رابحين في الحالين ، ناجحين في الحياتين..!!