القائمة الرئيسية

 

الصفحة الرئيسية

موقعة الجمل

بعد مبايعة علي بأيام قليلة بدأ الخلاف الحاد، وذهب طلحة والزبير إلى علي وطلبا منه ان يقيم الحد على قتلة عثمان.. ولكن علي اعتذر عن القيام بذلك وكان رأيه أن يتم تأجيل تنفيذ الحد عليهم.. وقال: إن قتلة عثمان لهم مدد وأعوان وهم كثرة وأين القوة التي تستطيع أن تنفذ هذا الحكم الآن؟؟!!.. والحق بلا نزاع كان مع علي.. فقتلة عثمان كثرة ولهم قوة والدليل على ذلك حصارهم لبيت عثمان ووصولهم إليه وما رفض عثمان أن يقاتلهم إلا لأنهم كثرة.. ولذلك رأى علي أن يؤجل إقامة الحد..

وثار طلحة والزبير ومعهم عدد من الصحابة، وكذلك معاوية بن أبي سفيان والي عثمان على الشام، فقد كانت نائلة زوجة عثمان بعثت إلى معاوية قميص عثمان الذي قُتِلَ فيه وعليه الدماء وفيه اصابعها التي قطعها المجرمون، فما إن وصلت إلى معاوية بكى بكاءاً شديداً وذهب إلى المسجد الدمشقي وعلق القميص والأصابع على المنبر، فانخلعت قلوب الناس لرؤية هذا المنظر، وطلبوا الثأر من قتلة عثمان وإقامة الحد.. وهنا رفض معاوية مبايعة علي حتى يقيم الحد على قتلة عثمان، أو يسلمه قتلة عثمان ليقيم الحد عليهم.

وبعد اعتذار علي قرر طلحة والزبير الخروج من المدينة واتجهوا إلى مكة، لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيها، فظن طلحة والزبير أن خروجهم مع عائشة سيجعل الناس يلتفون حول عائشة ويطالبون بقتل قتلة عثمان، ولم يخرجوا أبداً لسفك الدماء، بل أرادوا الإصلاح بين الناس.. وقد كانت السيدة عائشة في مكة لأداء مناسك الحج، فلما سمعت بمقتل عثمان قامت تحث الناس على المطالبة بدم عثمان مع طلحة والزبير، وأرادت أن تذهب إلى المدينة فقالا لها: دعكِ من المدينة فلا حمل لنا بالغوغاء التي في المدينة، بل اذهبي معنا إلى البصرة، وكان معهم عبدالله بن عامر والي عثمان على البصرة وكان له أعوان كثيرة في البصرة.. فخرجوا كلهم يريدون الإصلاح بين المسلمين ولم يريدوا القتال كما يزعم البعض.

وأثناء مسيرهم وعندما بلغت عائشة مياه بني عامر ليلاً، سمعت نباح الكلاب، فسألت: أي ماء هذا؟؟ فقالوا لها: ماء الحوأب، فتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان قد قال لنسائه وهن عنده جميعا: " أيتكن صاحبة الجمل الأدْبَبْ تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة ، وتنجو من بعد ماكادت " فأرادت أن ترجع ولا تكمل السير فقالوا لها: لا تَرْجِعِي عَسَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُصْلِحَ بِكِ بَيْنَ النَّاسِ. وكذلك الزبير أراد الرجوع، فقال له ابنه عبدالله: مالك؟ فقال الزبير: ذكّرني علي بحديث سمعته عن رسول الله وإني لا أريد أن أقاتله، فقال له ابنه عبدالله: وهل جئت للقتال؟! إنما جئت لتصلح بين الناس ويصلح بك هذا الأمر.

وعندما عَلِم عثمان بن حنيف عامل علي على البصرة بخروج السيدة عائشة إلى البصرة، أرسل يسألها عن سبب خروجها. فقالت: (إن الغوغاء من أهل الأمصار، ونُزّاع القبائل -وتقصد هنا قتلة عثمان-، غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة وبلا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } )


وروى ابن حبان أن عائشة -رضي الله عنها- كتبت إلى أبي موسى الأشعري والي علي على الكوفة: (فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم، والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين).

وعندما سمع علي بخروجهم إلى البصرة، قرر الخروج للبصرة، فوقف عبدالله بن سلام أمام دابته وقال له: ( لا تخرج من مدينة رسول الله فإن خرجت منها لا يعود لها سلطان المسلمين أبداً)، والحسن عليه السلام أخذ بخطام دابة أبيه وقال: ( يا أبي لا تخرج من دار الخلافة حتى تبقى المدينة دار الخلافة)، فقال لهم علي: ( والله إني ما خرجت إلا أريد الإصلاح ).

وخرج علي ومعه 1000 رجل وهذا يدل أن علي لم يرد القتال، وجاء الأحنف بجيش من 6000 رجل لكن علي رفض أن ينضم إليه.

ولما وصل علي البصرة، بعث القعقاع رسولاً إلى طلحة والزبير يدعوهما إلى الألفة والجماعة ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف.. فذهب القعقاع فبدأ بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقال: أي أماه ما أقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس. فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها فحضرا فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت إنما جئت للإصلاح بين الناس، فقالا: ونحن والله ما جئنا إلا لذلك". فقال القعقاع: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فقال طلحة: بقتل علي قتلة عثمان، فإن ترك علي هذا الأمر يكون علي قد ترك القرآن (أي الحد).

قال القعقاع: إنما أخّر علي قتل قتلة عثمان حتى يتمكن منهم لأن الكلمة الآن في جميع الأمصار مختلفة..فقالت عائشة: فماذا ترى يا قعقاع؟.. فقال القعقاع: إن هذا الأمر الذي وقع دواءه التسليم، فآثروا العافية وكونوا مفاتيح خير ولا تعرضونا للبلاء..فقالوا: أصبت وأحسنت فارجع إلى علي فإن كان على مثل رأيك صلح الأمر.. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك واتفق القوم على الصلح..

ولكن قتلة عثمان السبئية باتوا في هم شديد وكرهوا أن يتم الصلح وأجمعوا أن يثيروا الحرب بين الطرفين، فاندسوا ليلاً في الصفوف وقسموا انفسهم إلى فرق ودخلوا إلى معسكرات طلحة وعلي، وهجموا على الناس بسيوفهم في كلا المعسكرين، فظن كلا الطرفين أن الطرف الآخر قد غدر به.. ونشب القتال.. وكان علي يقول في المعركة: ( ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة ).. ووقفت عائشة تبكي وهي ترى المسلمين القتلى في كل مكان، وطلحة والزبير يحاولان إيقاف الناس، وكان طلحة ينادي وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فما زاد أن قال: أف أف فراش نار وذبان طمع.. ولم يتوقف القتال إلا بعد شروق الشمس.. وقال علي بعد هذه المأساة: ( اللهم إني أشهدك إني ما أردت هذا )..

واستشهد طلحة والزبير يوم الجمل، ومر علي على طلحة ورآه مقتولا فقال: ( عزيزٌ عليَّ أبا محمد أراك مجندلاً في التراب تحت نجوم السماء). وبكى.. ولما جاء قاتل الزبير يحمل سيف الزبير وأراد أن يدخل به على علي ظاناً أن علي سيفرح لذلك، أمسك علي السيف وبكى وقال: ( لطالما فرّج الزبير بهذا السيف الكرب عن رسول الله) وقال: ( بشِّر قاتل ابن صفية بالنار). -وابن صفية هو الزبير - ولم يأذن له أن يدخل عليه.. وصلّى علي على قتلى الطرفين..

وندمت عائشة رضي الله عنها على خروجها إلى البصرة وكانت بعد هذا كلما قرأت قوله تعالى: " وقرن في بيوتكن " تبكي حتى يبتل خمارها. وكانت كلما تذكرت موقعة الجمل تقول: (وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي وما سرت مسيري هذا).. وبعد انتهاء القتال اقترب علي من هودج عائشة ليطمئن عليها..وقد أخبره النبي بهذا الموقف، كما في الحديث: أن النبي نظر يوما إلى عائشة وعلي وابتسم، وقال لعلي:" لعله يكون يوما بينك وبينها أمر"، فقال علي: أنا يا رسول الله، إني والله لأشقاهم..فقال الرسول: "لا ولكن إن وقع هذا فأحسن إليها".. فذهب علي إليها وقال: كيف حالك يا أماه؟!.. قالت: بخير.. فقال لها: غفر الله لكِ.. قالت: ولك.. ثم زودها بما تحتاج إليه وأرسل معها أخيها محمد بن أبي بكر في طريق عودتها من البصرة إلى مكة ومن ثم إلى المدينة..ومن ذلك اليوم لم تغادر بيتها أبداً..

رضي الله عنها وعن جميع أصحاب النبي فكل منهم اجتهد في رأيه، والمجتهد إن أصاب له أجران وإن أخطأ فله أجر واحد.

ونتابع في الحلقة القادمة الحديث عن موقعة صفين.