القائمة الرئيسية

 

الصفحة الرئيسية

قضية التحكيم

سبق أن قلنا في الحلقة الماضية أن أهل الشام وأهل العراق قرروا اختيار حكمين عن كل منهما، فاختار أهل العراق ابي موسى الاشعري واختار أهل الشام عمرو بن العاص.. وهناك الكثير من الروايات الغير صحيحة في كتب التاريخ التي تصوّر أن أبا موسى الاشعري كان ساذجا مخدوعا وأن عمرو بن العاص كان داهية وخدع أبي موسى وقرر خلع علي ومبايعة معاوية.. ولا يليق بهذين الصحابين أن يوصفوا بالخداع والمكر والسذاجة...

بل تم الاتفاق والصلح بين الحكمين وتعاهدا على ما يلي:

( بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب. إنّا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، وانّه لا يجمع بيننا إلاّ ذلك ، وانّا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكماً فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات ، على ذلك تقاضيا ، وبه تراضيا)..

وكّلت الأمة أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص أن يحكما في هذه القضية وأعطتهم مدة طويلة ليصلوا إلى اتفاق مدتها سبعة اشهر.. وتوقف القتال بعد ان كُتِبت وثيقة التحكيم، فعاد علي بجيشه إلى الكوفة ومعاوية وجيشه إلى الشام..

ولكن اشتعلت نار فتنة جديدة في جيش علي أثناء عودته إلى الكوفة وهي ظهور الخوارج وكانوا يسمون القراء.. فخرجوا على علي.. وأصبح علي بين فتنتين الأولى في الشام تنادي يا لثارات عثمان والثانيه في جيشه تنادي إن الحكم إلا لله..  وسبب خروج هذه الفرقة أن علي قَبِلَ حكم عمرو وابي موسى.. فقالوا كيف يقبل علي حكم الرجال؟؟!!.. وخرجوا إلى منطقة تدعى الحروراء.

وأصر الخوارج على مواصلة القتال.. ورفضوا رأي التحكيم.. مع أنهم هم من أصرّ على التحكيم في البداية.. قيل كانوا 12 ألفا أو 16 ألفا أو 20 الفا.. وانطلقوا يعيثون في الأرض الفساد ويتهمون كل مسلم لا يقول بقولهم أنه كافر..فأرسل علي عبدالله ابن عباس رضي الله عنه إلى الخوارج ليحاورهم ويقيم الحجة عليهم.. فسألهم ابن عباس: بم تنقمون على علي؟!! قالوا: ننقم عليه ثلاثاً:

الأولى: أنّه حكّم الرجال في دين الله والله تعالى يقول ( إن الحكم إلا لله)، وما للرجال وما للحكم!!

و الثانية:  أن علياً قاتل ولم يأخذ من مقاتليهم سبياً أو غنائم ( أي يوم الجمل)!!

والثالثة: أنه رضي عند التحكيم أن يمحى لقب أمير المؤمنين عن نفسه، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين!!

فقال لهم ابن عباس:  أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُكُمْ أَتَرْضَوْنَ؟ قَالُوا : نَعَمْ ..

فَقُال لَهُمْ : أَمَّا قَوْلُكُمْ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِى أَمْرِ اللَّهِ فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا قَدْ رُدَّ حُكْمُهُ إِلَى الرِّجَالِ فِى ثَمَنِ رُبُعِ دِرْهَمٍ فِى أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إِلَى قَوْلِهِ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فَنَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِى أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ أَفْضَلُ أَمْ حُكْمُهُمْ فِى دِمَائِهِمْ وَإِصْلاَحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَحَكَمَ وَلَمْ يُصَيِّرْ ذَلِكَ إِلَى الرِّجَالِ وَفِى الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) فَجَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الرِّجَالِ سُنَّةً مَاضِيَةً أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا : نَعَمْ.

 

قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا يُسْتَحَلُّ مِنْ غَيْرِهَا فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ وَهِىَ أُمُّكُمْ وَلَئِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ بِأُمِّنَا لَقَدْ كَفَرْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ( النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) فَأَنْتُمْ تَدُورُونَ بَيْنَ ضَلاَلَتَيْنِ أَيَّهُمَا صِرْتُمْ إِلَيْهَا صِرْتُمْ إِلَى ضَلاَلَةٍ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قُلْتُ : أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا : نَعَمْ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنَا آَتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ أُرِيكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ :« اكْتُبْ يَا عَلِىُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ». فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى رَسُولُكَ اكْتُبْ يَا عَلِىُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ». فَوَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْرٌ مِنْ عَلِىٍّ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ مَحَا نَفْسَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : فَرَجَعَ مِنَ الْقَوْمِ أَلْفَانِ وَقُتِلَ سَائِرُهُمْ عَلَى ضَلاَلَةٍ.

رجعت فرقة من الخوارج إلى الحق بعد مناظرة ابن عباس لهم.. وبقيت فرقة منهم على الضلالة.. ليتحقق صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقد كان قد أخبر الصحابة عن هذه الفئة الضالة في أكثر من حديث وصدق المصطفى:

بَعَثَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِى أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا ، قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ . قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَلاَ تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ ، يَأْتِينِى خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً » . قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اتَّقِ اللَّهَ . قَالَ « وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ » . قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ « لاَ ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّى » . فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِى قَلْبِهِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ » قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ « إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ » . وَأَظُنُّهُ قَالَ « لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ » .

فرسول الله تنبّأ لأصحابه بخروج جماعة القراء الذين يخرجون من ضئضئه أي نسله.. وقال إن أدركهم هو لكان قتلهم.. وقد قاتلهم علي رضي الله عنه.. وفي حديث آخر حدّث الرسول أصحابه عن علامة هؤلاء القوم وهي أنه سيكون بينهم رجل له صفات وضّحها رسول الله في هذا الحديث:

قال أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضى الله عنه يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ. آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ ».

وبعد أن قاتل علي الخوارج، طلب من جيشه أن يبحثوا عن هذا الرجل الأسود المقطوع ذراعه الذي أخبر عنه النبي.. فلم يجدوه.. فقال لهم علي: ارجعوا فالتمسوه فوالله ما كَذَبْت وما كُذِبْت.. فعادوا مرة أخرى وقالوا ما وجدناه فقال لهم علي: ارجعوا فالتمسوه فوالله ما كَذَبْت وما كُذِبْت.. فعادوا ولم يجدوه، ثم قام علي بنفسه يبحث عن هذا الرجل في قتلى الخوارج فرأى مجموعة من الجثث فوق بعضها البعض فطلب أن ترفع هذه الجثث.. حتى رأى جثة رجال تنطبق عليه الصفات التي اخبر عنها النبي المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى.. فقال علي: الله أكبر.. وخرّ لله ساجداً..

ونتابع في الحلقة القادمة الحديث عن قتل علي رضي الله عنه.